لقرون طويلة كان ذكر " الطاعون" أو " الموت الأسود " كفيلا بإثارة أشد حالات الرعب والفزع، وهو الأمر الذي جعل المؤرخين يربطون اسمه بمصائر الولايات والمدن، وليس بأقدار الرجال والأفراد فحسب. ولهذا فللكثير من المدن حكايتها الخاصة عن الطاعون . ولمدينتي الصغيرة " درنة "، النائمة منذ قرون على الشاطئ الليبي حكايتها الخاصة مع الوباء الذي عربد في أزقتها الضيقة الشاحبة، وضواحيها الخضراء الهادئة في أحد أيام سنة 1816 م.
ومنذ ذلك الوقت حام الوباء حول المدينة الطريدة كل عدة عقود ، ليختطف أرواح بعض الفانين ، من القرى الرعوية المتربة ، التي تتناثر عند أطراف المدينة. ومنذ منتصف القرن الماضي ، بعد هزيمة الطاعون الساحقة على يد المضادات الحيوية ، لم يعد أحد يهتم بالموت الأسود، وانشغل عنه سكان المدينة القدامى بعاديات الأيام التي مرت عليهم فهزتهم من الصميم، وغيرت طباعهم و حياتهم كلياً كأنها للأبد. وتبخرت مع الأيام شخصية درنة التي احتفظت بها بين ذكريات طفولتي وشبابي المبكر، بعد أن ازداد عدد سكانها، الذين أضافوا إلى قصتها، حكايات أمكنة أخرى بعيدة، وضعفت بمرور الزمن ذاكرة المدينة القديمة مع رحيل جل الحواريين القدامى إلى السماء، تاركين عزيزهم مصلوباً بين الجبل والبحر ليتولاه الله، ويتملقه الجناة . وكادت تضيع – مع ما ضاع - حكاية درنة مع الطاعون ، لولا بعض ما ورد عنها بشكل عابر في زوايا الكتب.
وقد يظن القارئ الحصيف، أنه ربما كان الغرض من مقالي هذا ، التطرق إلى التاريخ الاجتماعي للمدينة ، للتباكي بشوق غامض على أيام طفولتي وشبابي المبكر . غير أن الأمر ليس على هذا النحو، ... هذا على الأقل فيما يبدو لإدراكي الشخصي. ورغم كل شيء، ورغم اعترافي المسالم هذا، فقد يحتج أحد مستوطني " رباية الذايح " من الموضوع برمته ، ويصيح متذمرا ... " أه ... الدراونة بدو لنا في الأسطوانة الدرناوية من جديد!"
ورغم أن الاحتجاج والشكوك المذكورة قد تكون مبررة بشكل من الأشكال، فإن حقيقة الأمر ليست كذلك . كل ما في الأمر أن الطاعون، يتداخل مع التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمدن التي يستبيحها، مما يتسبب في اختلاط حكايته مع مصائر ضحاياه من المدن في إطار سحري غامض ومثير. وتختلط القصص بمجملها بحكايات فرعية لمصائر أشخاص و عائلات ، وبعض الأساطير و الخرافات.
ولكن أسطورة درنة وخرافتها مع المرض ضاعت فيما يبدو بسبب ما ذكرته مما حدث للمدينة، وبعد إزالة المسّاحين الغرباء- الذين تولوا إعادة تخطيط المدينة آنذاك- لأحجارها ودورها القديمة التي لا تربطهم بها أي علاقة حميمة، فضاعت مع نقوش الأبواب الأندلسية ، وأجواء الجنائن الغرناطية الطابع، وقراطيس الخزائن العتيقة ذكرى الأحداث.
وفي الواقع لا يمكنني أن أستبعد أي شيء، بعد الحادثة التي حصلت لي منذ فترة . وقتها أوقفت سيارة أجرة، ودلفت إليها لاجد نفسي مشاركا المقصورة مع شاب استوقفتني لهجته الغريبة، وبدا لي أكثر شبها بقائد قافلة عابرة ضل طريقه إلى" تمبكتو " البعيدة. وبعد أن أعلنت أمامه وجهتي، باغتني بسؤال - وهو يتفحصني بعيني ذئب، بينما كانت شعرات رأسه الأمامية الصفراء المثبتــة بإحكام بأحد المراهم تلمع-"الاستاذ من وين؟ ".
في الحقيقة لم أدر وقتها، إذا ما كان السؤال من مستلزمات أحد الأعمال الإضافية التي يمارسها هذا الشاب لكسب المال، غير أني حاولت أن أجاري الحاذق تطفله، وأتملق بديهته الواعدة ، فرددت على سؤاله بسؤال مراوغ : " شنو رايك ؟ " .... وأنا ألفظ الكلمات بأقصى ما أستطيع من رخوة لسان درناوية أصيلة، غير شاك - بأي حال من الأحوال - بمدى وضوح اللهجة ، وسهولة السؤال .
فأجاب متفاخرا :
- الأستاذ عراقي ... قالها بثقة في النفس، وهو ينظر إليَّ بتركيز واضح، تاركا قيادة العربة لرحمة الله .
- فسألته : الأخ درناوي ؟ وأنا أشعر بخيبة أمل كبيرة، حاولت قدر الإمكان أن أخفيها بوضع أصابعي على صدغي الأيسر، في محاولة مني لإخفاء " الستوك " الذي اخذا يتساقط عن وجهي قطعا... قطعا ... ، معلنا عن حقيقة مشاعري العارية .
تذكرت هذه الحادثة ، وأنا أفكر بأنه ربما قد تكون التفاصيل الدقيقة لحكاية درنة مع الطاعون قد ضاعت هي الأخرى ، مثلما ضاعت هُويَّـتي العزيزة بهذه السهولة، هُويَّـتي التي دافعت عنها مرارا أمام مغريات التجنس بجنسية أجنبية.
أما الذي أعاد الحياة إلى كل هذه الأفكار والذكريات ، فكانت مطالعتي لما كتبه الدكتور عبد الكريم بوشويرب في صفحة (148) من كتابه (أعلام ومعالم من تاريخ الطب في ليبيا)، حيث قال : " .... وفي سنة 1816 ، ضرب وباء الطاعون مدينة درنة بشكل قوي أدى إلى هلاك كثير من السكان نتج عنه نقص تعداد السكان من خمسة الآف إلى خمسمائة فقط "كما أورد المؤلِّف بعض المعلومات عن هذا الأمر نقلا عما كتبه الطبيب الإيطالي "باولو ديلا شيلا" الذي رافق حملة أحمد باي ،ابن يوسف باشا التي وصلت درنة سنة 1817م .
ومنذ ذلك الوقت حام الوباء حول المدينة الطريدة كل عدة عقود ، ليختطف أرواح بعض الفانين ، من القرى الرعوية المتربة ، التي تتناثر عند أطراف المدينة. ومنذ منتصف القرن الماضي ، بعد هزيمة الطاعون الساحقة على يد المضادات الحيوية ، لم يعد أحد يهتم بالموت الأسود، وانشغل عنه سكان المدينة القدامى بعاديات الأيام التي مرت عليهم فهزتهم من الصميم، وغيرت طباعهم و حياتهم كلياً كأنها للأبد. وتبخرت مع الأيام شخصية درنة التي احتفظت بها بين ذكريات طفولتي وشبابي المبكر، بعد أن ازداد عدد سكانها، الذين أضافوا إلى قصتها، حكايات أمكنة أخرى بعيدة، وضعفت بمرور الزمن ذاكرة المدينة القديمة مع رحيل جل الحواريين القدامى إلى السماء، تاركين عزيزهم مصلوباً بين الجبل والبحر ليتولاه الله، ويتملقه الجناة . وكادت تضيع – مع ما ضاع - حكاية درنة مع الطاعون ، لولا بعض ما ورد عنها بشكل عابر في زوايا الكتب.
الحكاية الضائعة
وقد يظن القارئ الحصيف، أنه ربما كان الغرض من مقالي هذا ، التطرق إلى التاريخ الاجتماعي للمدينة ، للتباكي بشوق غامض على أيام طفولتي وشبابي المبكر . غير أن الأمر ليس على هذا النحو، ... هذا على الأقل فيما يبدو لإدراكي الشخصي. ورغم كل شيء، ورغم اعترافي المسالم هذا، فقد يحتج أحد مستوطني " رباية الذايح " من الموضوع برمته ، ويصيح متذمرا ... " أه ... الدراونة بدو لنا في الأسطوانة الدرناوية من جديد!"
ورغم أن الاحتجاج والشكوك المذكورة قد تكون مبررة بشكل من الأشكال، فإن حقيقة الأمر ليست كذلك . كل ما في الأمر أن الطاعون، يتداخل مع التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمدن التي يستبيحها، مما يتسبب في اختلاط حكايته مع مصائر ضحاياه من المدن في إطار سحري غامض ومثير. وتختلط القصص بمجملها بحكايات فرعية لمصائر أشخاص و عائلات ، وبعض الأساطير و الخرافات.
ولكن أسطورة درنة وخرافتها مع المرض ضاعت فيما يبدو بسبب ما ذكرته مما حدث للمدينة، وبعد إزالة المسّاحين الغرباء- الذين تولوا إعادة تخطيط المدينة آنذاك- لأحجارها ودورها القديمة التي لا تربطهم بها أي علاقة حميمة، فضاعت مع نقوش الأبواب الأندلسية ، وأجواء الجنائن الغرناطية الطابع، وقراطيس الخزائن العتيقة ذكرى الأحداث.
الهُويّة الضائعة:
وفي الواقع لا يمكنني أن أستبعد أي شيء، بعد الحادثة التي حصلت لي منذ فترة . وقتها أوقفت سيارة أجرة، ودلفت إليها لاجد نفسي مشاركا المقصورة مع شاب استوقفتني لهجته الغريبة، وبدا لي أكثر شبها بقائد قافلة عابرة ضل طريقه إلى" تمبكتو " البعيدة. وبعد أن أعلنت أمامه وجهتي، باغتني بسؤال - وهو يتفحصني بعيني ذئب، بينما كانت شعرات رأسه الأمامية الصفراء المثبتــة بإحكام بأحد المراهم تلمع-"الاستاذ من وين؟ ".
في الحقيقة لم أدر وقتها، إذا ما كان السؤال من مستلزمات أحد الأعمال الإضافية التي يمارسها هذا الشاب لكسب المال، غير أني حاولت أن أجاري الحاذق تطفله، وأتملق بديهته الواعدة ، فرددت على سؤاله بسؤال مراوغ : " شنو رايك ؟ " .... وأنا ألفظ الكلمات بأقصى ما أستطيع من رخوة لسان درناوية أصيلة، غير شاك - بأي حال من الأحوال - بمدى وضوح اللهجة ، وسهولة السؤال .
فأجاب متفاخرا :
- الأستاذ عراقي ... قالها بثقة في النفس، وهو ينظر إليَّ بتركيز واضح، تاركا قيادة العربة لرحمة الله .
- فسألته : الأخ درناوي ؟ وأنا أشعر بخيبة أمل كبيرة، حاولت قدر الإمكان أن أخفيها بوضع أصابعي على صدغي الأيسر، في محاولة مني لإخفاء " الستوك " الذي اخذا يتساقط عن وجهي قطعا... قطعا ... ، معلنا عن حقيقة مشاعري العارية .
تذكرت هذه الحادثة ، وأنا أفكر بأنه ربما قد تكون التفاصيل الدقيقة لحكاية درنة مع الطاعون قد ضاعت هي الأخرى ، مثلما ضاعت هُويَّـتي العزيزة بهذه السهولة، هُويَّـتي التي دافعت عنها مرارا أمام مغريات التجنس بجنسية أجنبية.
أما الذي أعاد الحياة إلى كل هذه الأفكار والذكريات ، فكانت مطالعتي لما كتبه الدكتور عبد الكريم بوشويرب في صفحة (148) من كتابه (أعلام ومعالم من تاريخ الطب في ليبيا)، حيث قال : " .... وفي سنة 1816 ، ضرب وباء الطاعون مدينة درنة بشكل قوي أدى إلى هلاك كثير من السكان نتج عنه نقص تعداد السكان من خمسة الآف إلى خمسمائة فقط "كما أورد المؤلِّف بعض المعلومات عن هذا الأمر نقلا عما كتبه الطبيب الإيطالي "باولو ديلا شيلا" الذي رافق حملة أحمد باي ،ابن يوسف باشا التي وصلت درنة سنة 1817م .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق